-A +A
محمد العتيبي
ظلّ وزير الدعاية النازية الشهير «غوبلز» يكذب ثم يكذب ثم يكذب حتى صدّق أكاذيبه وصدّقها الناس، محققاً فلسفته في الحرب النفسية والخداع والتضليل، لكن النتيجة في نهاية المطاف كانت كارثية على نفسه وعلى من صدّقوه، فكانوا جميعاً ضحية هذا الكذب، قبل أي شيء آخر.

ورغم أن الزمن والتجارب المريرة، كشفت زيف هذه المقولة مراراً وتكراراً؛ إلا أن واقع الأمر يدل على أن «الكذب» كآفة سلوكية ولا أخلاقية والمنبوذة -ولو نظرياً- مجتمعياً ودينياً، آخذة بالتطور والتمدد، وآخذ أتباعها ومعتنقوها بالتزايد والتكاثر.


إذ تكشف دراسات علم النفس أن الإنسان يمارس فعل الكذب خلال اليوم الواحد بين مرتين إلى ثماني مرات، فيما يتّخذ أصحابها قائمة لا حصر لها من المبررات التي تدفعهم للجوء إلى الكذب، وأحياناً ومن باب «راحة الضمير» إلباسه اللون «الأبيض» للتخفيف من حدّته أو منح سلوكهم صك غفران وشهادة براءة! وتحت هذا الغطاء، استشرت ظاهرة الكذب لتصبح بقصد أو بدون، الوصفة الثابتة في علاقاتنا، وأحاديثنا، وكلماتنا، ومجاملاتنا، وتواصلنا، وفي شرائنا وبيعنا وعملنا، وحتى في إرشاداتنا وتربيتنا لأطفالنا التي يتصدّرها دوماً حثّهم على «عدم الكذب!»

يرى «مايكل لويس» أستاذ الطب النفسي بجامعة «راتجرز»، أن الكذب على مدار التاريخ البشري كان «ضرورة تطورية نحمي بها أنفسنا من الأذى». لكن في أثناء ذلك نحن لا ندرك أننا من خلال اللجوء إلى الكذب كل ما نفعله تأجيل ذلك «الأذى» وربمّا مضاعفة أثره، وأن «الصدق» بما يترتب عليه من مكاشفة ومصارحة وأحياناً انطباعات وآراء صادمة، فإنه يبقى أقصر الطرق لكسب احترام الذات قبل الآخرين، ولبناء علاقات رصينة خالية من الشوائب ومن المخاطر، وسيبقى السبيل الأكثر نجاعة لتطوير الذات وتحسين الأداء.

فتحت شعار «أنا لا أكذب ولكن أتجمّل»، وتحت وطأة «حماية النفس والآخرين» من الحرج والإيذاء، تتدفّق في أجوائنا وسلوكياتنا اليومية كميات هائلة لا حصر لها من الأكاذيب والعبارات المعسولة والمدسوسة، التي نظنّ أحياناً أنها طوق النجاة لإنقاذنا من موقف صعب أو إخفاق ما، وأحياناً أخرى أنها وسيلة لكسب ود الآخر واحترامه وقبوله وإرضائه ولو مؤقتاً، فالإنسان بطبعه مسكون دوماً بعقدة «القبول» ولا يمانع في سبيل تحقيق ذلك إلى بذل جهود استثنائية فسيولوجية وفيزيائية للوصول إلى مبتغاه. فعلى عكس ما هو متوقع فإن «الكذب» يستنزف من صاحبه جهوداً مضاعفة من أجل إقناع الطرف المقابل بتصديقه، لذلك فليس من المستغرب أن يصدّق «الكاذب» هو نفسه كذبته لتكون مصدّقة لدى الآخرين!

وفي خضم حلقات الكذب التي تتوالد تلقائياً بمرور الوقت، يترسّخ هذا السلوك في ذاتنا، ويصبح سمة أصيلة تسيطر على كافة تفاصيلنا الحياتية وتتغلّب على ضمائرنا وأخلاقنا، ويمسي -فيما نتوّهم- أنه المسار الأيسر لتحقيق المصلحة، والطريق الآمن لحماية أنفسنا، والوسيلة الأجدى لكسب الغنائم، فيما نحن نؤطّر لحالة نفاق ذاتي ومجتمعي سرعان ما ستتساقط أوراقها وينكشف زيفها.

انظر اليوم وتابع بشكل مكثّف وتحليلي ما يدور على منصّات التواصل الاجتماعي من محتوى، تأمّل كم الشائعات والأكاذيب، بل ومحاولات التضليل و«التجمّل» التي يلجأ إليها «فرسان» هذه المنصّات، لحصاد الإعجابات وإشباع شهوة الشهرة ولفت الانتباه. بل كم من السيناريوهات والحكايا والمواقف «الكاذبة» التي حاكها بعض هؤلاء المشاهير ليكونوا حديث الساعة والشارع حيناً بقصد كسب التعاطف، وحيناً آخر لتشويه سمعة منافسيهم واغتيال شخصياتهم، وحيناً لتضخيم ثرواتهم، وحيناً لحماية بريق نجوميتهم من الأفول!

ومع اتساع رقعة تلك «الأكاذيب» وتكاثر ميادينها وأصنافها، ستكتشف أننا بتنا نعيش في بيئة كاذبة، وستبدأ بتحسّس كل ما حولك، وهنا تكمن إشكاليتنا في تمدد ظاهرة وطغيانها على مبادئنا الإنسانية السامية، إشكالية لا يردعها قانون أو نظام، بل مراجعة للذات والبدء منها!